مقالاتنا

أفكار الهجرة بين القلب والعقل: حين تسكنني قرى بنغلاديش

author image

أفكار الهجرة بين القلب والعقل: حين تسكنني قرى بنغلاديش


بين وقتٍ وآخر، تأتيني فكرة الهجرة كضيفٍ ثقيل لا يغادرني بسهولة. ليست هجرةً بسبب حرب أو جوع أو بحث عن فرصةٍ مادية أعظم، بل هي تلك الهجرة التي يقودها القلب... وتُقلقها الحسابات. أعيش في بلدٍ يملك من التنظيم والخدمات الشيء الكثير، لكني لا أجد نفسي فيه. قلبي، بكل بساطة، هناك... في ريف بنغلاديش.

القرية التي أحببتها

كانت أول زيارة لي إلى ريف بنغلاديش في سيلهيت - دوارا بزار - بنجلا بزار - شوكير جات - بمثابة اكتشاف حياة جديدة. لم أكن أتوقع أن أتعلق بالمكان بهذه السرعة، لكنه سلب عقلي من أول لحظة. هناك، حيث تمتد الخضرة بلا حدود، وتتمايل سنابل الأرز كأنها تهمس للريح، حيث يسكن البسطاء الطيبون في قرى صغيرة متقاربة، يتشاركون الخبز والماء والضحكة.

اقرأ أيضا : في زمنٍ أصبحت فيه القوة واجبًا اجتماعيًا، والتماسك عنوانًا دائمًا للنجاح، باتت الهشاشة تُخفى بعناية، والضعف يُغطى بابتسامة واثقة وصورة متقنة على مواقع التواصل.


أحببت كل شيء هناك: البيوت الطينية التي تحكي حكايات الدفء، الأمطار المستمرة التي تغسل الأرواح قبل الأرض، الأسواق الصغيرة التي تفيض بمنتجات طازجة من خيرات الأرض، والبساطة التي نفتقدها في تفاصيل حياتنا اليومية المعقدة. لكن الأجمل من كل شيء... أني أحببت زوجتي، وأحببت عائلتها، وأحببت طريقتهم في الحب، في الحياة، في الرضا.

منزل الأقارب في بنغلاديش


عائلة بسيطة ولكن غنية بالحب

أهل زوجتي يعيشون حياة بسيطة، بل فقيرة وفقًا لمقاييسنا المادية، لكنهم من أغنى الناس محبةً وسخاءً. لم أشعر يومًا أني غريب. احتضنوني كواحدٍ منهم، وشعرت أني أعيش بينهم بروح أكثر راحة من أي وقتٍ مضى.

طفلاي يحبان الزيارة هناك، لكنهم لا يدركون بعد حجم التحديات. يتحدثان العربية فقط، بينما الناس هناك يتحدثون البنغالية، لغة لا تزال غريبة عن ألسنتهما. وهذا هو التحدي الأول أمام فكرة الانتقال الكامل. هل يمكن أن يندمجا؟ هل يمكن أن يعتادا على بيئة تعليمية ولغوية مختلفة؟

التعليم في بنغلاديش... مفاجأة سارة

رغم أن بنغلاديش دولة نامية، إلا أنني فوجئت بمستوى التعليم هناك، وخاصة في القرى. الأطفال يذهبون إلى المدرسة في وقت مناسب – الساعة التاسعة صباحًا، ويعودون بعد أربع ساعات فقط. لا توجد ضغوط مبالغ فيها، ولا مناهج مثقلة ترهق الطفل وتسرق طفولته. لقد أحببت هذا النموذج البسيط والفعّال من التعليم. هو أقرب للطبيعة، ويحافظ على إنسانية الطفل بدل أن يحوله إلى آلة للحفظ.

في بلدي، يبدأ الأطفال يومهم الدراسي فجراً، ويقضون معظم يومهم محصورين بين جدران المدرسة والدروس الخصوصية، يركضون في سباق لا نهاية له من الواجبات والتقييمات والاختبارات. هل هذا هو التعليم الذي نريده؟ وهل من العدل أن نمنحهم مستقبلًا مرهقًا تحت ذريعة "التحصيل العلمي"؟

بين ضجيج المدن وهدوء الريف

في قرى بنغلاديش، الحياة تمشي على مهل. لا أحد مستعجل. لا أحد يعيش ضغوط "الصورة الاجتماعية" أو "المنافسة الوظيفية" أو "سباق الامتلاك". هناك، تكفيك وجبة دافئة، وسقف يحميك، وقلوب تحتضنك.

في المقابل، في المدينة حيث أعيش، أصبحت الحياة تُدار بالتزامات مرهقة لا تنتهي. كل شيء هنا مدفوع بالضغوط: العمل، الأسرة، المدرسة، حتى العلاقات. حتى الهواء... ثقيل.

لهذا أحب الريف. أحب البساطة. أحب الزراعة هناك، وتربة الأرض التي لا تخونك. هناك، أشعر أنني أستطيع أن أعيش، لا فقط أن أركض.

مخاوفي... حقيقية ومؤرقة

لكن، ليست كل المشاعر كافية لاتخاذ قرار بهذا الحجم. أنا أب. ومسؤولية الأب لا تسمح له باتخاذ قرار عاطفي بالكامل. أفكر بأطفالي، وأخاف عليهم من صدمة اللغة، من صدمة الاختلاف، ومن واقع مادي قد يكون أقسى مما أتحمله لاحقًا.

هل سأندم إن رحلت؟ هل سأعيش قلقًا دائمًا على مستقبلهم؟ هل البيئة البسيطة ستبني لهم مستقبلًا أفضل... أم ستسرق منهم أحلامهم؟ وهل الأمان هناك مضمون؟ أم أني أراهن على أمل قد لا يصمد أمام الواقع؟

بين ما أريد وما يجب

أفكر كثيرًا. بل كل يوم. أُقارن بين بساطة الحياة في الريف وبين تعقيدات الحاضر. بين راحة الروح وبين أمان المستقبل. بين تعليمٍ إنساني هناك، وتعليمٍ استهلاكي هنا. بين الحب الصادق الذي أعيشه مع أهل زوجتي... وبين المجتمع الذي أعيش فيه دون أن أشعر بالانتماء.

الهجرة ليست دائمًا بحثًا عن المال، بل قد تكون بحثًا عن النفس. لكن النفس أحيانًا يجب أن تؤجل أحلامها من أجل مسؤولياتها.

ختامًا: سأبقي الفكرة... ولا أُطفئ الحلم

ربما لن أهاجر الآن، وربما سأظل أزورها فقط. وربما يأتي وقت أستطيع فيه أن أعيش كما أحب، في المكان الذي أحب، دون أن أُخاطر بمن أحب.

لكن الشيء الأكيد أن أفكار الهجرة لن تغادرني بسهولة، لأنها أصبحت أكثر من فكرة... أصبحت جزءًا مني.